قناة السويس ...تطور تاريخى



جمع المؤرخون على أن فرعون مصر سنوسرت الثالث كان أول من فكر فى شق قناة تربط البحرين الأحمر والمتوسط . بيد أن التاريخ الفعلى لقناة السويس يبدأ من فرمان الامتياز الأول ، وما تلاه من فرمانات وصولا إلى عملية الحفر التى بدأت في 25 ابريل 1859 حيث ضُربت الفأس الأولى في أعمال قناة السويس في مدينة "فرما"(موقع بورسعيد حاليا) بمشاركة نحو 20 ألف من العمال المصريين الذين أدوا واجبهم في ظروف إنسانية بالغة القسوة.

 ومنذ افتتاحها في 17 نوفمبر 1869 مرت القناة بمراحل تاريخية وشهدت تطورات وأحداثا كبرى كان من أبرزها قرار التأميم الذى أعاد الحقوق لأصحابها ، وتعرضها للإغلاق بعد حرب عام 1967 ، ثم افتتاحها فى يونيو 1975 ، ونعرض في السطور التالية لأهم تلك التطورات :

1- قناة السويس : جذور الفكرة وبداياتها الأولى

من المعلوم – كما تبين كتب التاريخ – أن أول من فكر في ربط البحرين الأبيض والأحمر ، بطريق غير مباشر ، عن طريق النيل وفروعه هو الفرعون سنوسرت الثالث ، من الأسرة الثانية عشرة ، وذلك بهدف توطيد التجارة وتيسير المواصلات بين الشرق والغرب . حيث  كانت السفن القادمة من البحر الأبيض المتوسط تسير في النيل حتى الزقازيق ومنها إلى البحر الأحمر عبر البحيرات المرة التي كانت متصلة به في ذلك الوقت . وما زالت آثار هذه القناة موجودة حتى اليوم في جنيفة بالقرب من السويس ([1]) .

إعادة شق القناة ( 610 قبل الميلاد ) :

فى عام 610 قبل الميلاد امتلأت هذه القناة بالأتربة وتكون سد أرضي عزل البحيرات المرة عن البحر الأحمر لافتقارها إلى الصيانة فترة طويلة من الزمان ، فبذل الفرعون نخاو الثاني المعروف باسم نيقوس ، غاية جهده لإعادة شق القناة ، فوفق إلى وصل النيل بالبحيرات المرة ولكنه فشل في وصلها بالبحر الأحمر.

وفى 510 قبل الميلاد اهتم دارا الأول ملك الفرس بالقناة ، فأعاد ربط النيل بالبحيرات المرة ، غير أنه لم ينجح كسلفه في وصل البحيرات المرة بالبحر الأحمر إلا بواسطة قنوات صغيرة لم تكن صالحة للملاحة ، إلا في موسم فيضان النيل فقط.

وتغلب بطاليموس الثاني فى 285 قبل الميلاد على كل الصعوبات التي اعترضت سبيل سابقيه ، فتمكن من إعادة الملاحة إلى القناة بأكملها ، بعد أن نجح في حفر الجزء الواقع بين البحيرات المرة والبحر الأحمر ، ليحل محل القنوات الصغيرة.

ورأى الرومان إعادة استخدام القناة للملاحة لضرورات التجارة ، فحفر الإمبراطور تراجان الروماني قناة جديدة ( 98 ميلادية ) ، تبدأ من القاهرة عند فم الخليج ، وتنتهي في العباسة ، حيث تتصل بالفرع القديم عند الزقازيق.

وفي عهد البيزنطيين ( 400 ميلادية ) دب الإهمال من جديد في القناة ، فتراكم التراب فيها ، حتى أصبحت غير صالحة للملاحة على الإطلاق.

وفى عام 641 ميلادية أعاد عمرو بن العاص الملاحة الى القناة ، وأطلق عليها اسم قناة أمير المؤمنين ، وقد خطر له أن يشق قناة مباشرة بين البحرين الأبيض والأحمر ، ولكن الخليفة عمر بن الخطاب أثناه عن عزمه ، اعتقادا منه بأن شق مثل هذا البرزخ قد يعرض مصر كلها لطغيان مياه البحر الأحمر.

وفى عام 760 ميلادية ردم الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور القناة ، حتى لا تستخدم في نقل المؤن إلى أهل مكة والمدينة الثائرين على حكمه ، وبذلك تعطلت الملاحة بين البحرين ، أحد عشر قرنا تقريبا ، استخدمت خلالها الطرق البرية في نقل تجاره مصر .وفى عام 1820 أمر محمد علي بإصلاح جزء من القناة لرى المنطقة الواقعة بين العباسة والقصاصين ([2]).

2-قناة السويس من فرمان الإمتياز 1854 إلى حفل الافتتاح 1869 :

يبدأ التاريخ الحقيقي لقناة السويس من فرمان الامتياز الأول وما تلاه من فرمانات مرورا  بضربة الفأس الأولى في أعمال الحفر وصولاً إلى انتهاء أعمال الحفر (18 اغسطس 1869) والتي توجت بحفل الإفتتاح في 17 نوفمبر 1869.

فرمان الامتياز الأول ([3]) :

صدر فرمان الامتياز الأول الذى منح فرديناند ديلسبس حق إنشاء شركة لشق قناة السويس فى 30 نوفمبر 1854 وينص هذا الفرمان فى مادته الأولى على أن ديلسبس يجب أن ينشىء شركة ويشرف عليها ، وفى مادته الثانية أن مدير الشركة يتم تعيينه بمعرفة الحكومة المصرية وفى مادته الثالثة أن مدة الامتياز تسع وتسعون سنة تبدأ من تاريخ فتح القناة . وفى مادته الخامسة أن الحكومة المصرية تحصل سنوياً على 15 % من صافى أرباح الشركة . وينص هذا الفرمان أيضاً على أن رسم المرور فى القناة يتم الاتفاق عليه بين الخديوى والشركة، وأن تتساوى فيه كل الدول دون تفرقة أو امتياز، وأنه عند انتهاء امتياز هذه الشركة تحل الحكومة المصرية محلها، وتستولى على القناة وعلى كل المنشآت التابعة لها.

فرمان الامتياز الثانى :

صدر فرمان الامتياز الثانى فى 5 يناير 1856 وهو يتضمن 23 مادة توضح ما تضمنه الفرمان الأول من أحكام. غير أنه يلاحظ أن المواد 14 و 15 من الفرمان الثانى تؤكد بصورة واضحة حياد القناة. فقد جاء فى المادة 14 " القناة البحرية الكبرى من السويس إلى الطينة والمرافىء التابعة لها مفتوحة على الدوام بوصفها ممراً محايداً لكل سفينة تجارية ".

تأسيس الشركة العالمية لقناة السويس البحرية ([4]) :

تأسست الشركة العالمية لقناة السويس البحرية (15 ديسمبر 1858) برأس مال قدره 200 مليون فرنك (8 ملايين جنيه) ، مقسم على 400,000 سهم قيمة كل منها 500 فرنك ، خصصت الشركة لكل دولة من الدول عددا معينا منها وكان نصيب مصر 92136 سهما ونصيب انجلترا والولايات المتحدة والنمسا وروسيا 85506 أسهم غير أن هذه الدول رفضت رفضا باتا الاشتراك في الاكتتاب ، فاضطرت مصر إزاء رفضها ، إلى استدانة 28 مليون فرنك (1120000 جنيه ) بفائدة باهظة لشراء نصيبها بناء على إلحاح دليسبس ، ورغبة منها في تعضيد المشروع وإنجاحه ، وبذلك أصبح مجموع ما تملكه مصر من الأسهم 177642 سهما قيمتها 89 مليون فرنك تقريبا (3560000 جنيه) أي ما يقرب من نصف رأس مال الشركة.

بدء العمل فى حفر قناة السويس :

فى 25 أبريل 1859 بدأ العمل فى حفر قناة السويس رغم اعتراضات انجلترا والباب العالى . وتدفقت مياه البحر الأبيض المتوسط في بحيرة التمساح ( 18 نوفمبر 1862 ) ، وكانت وقتئذ عبارة عن منخفض من الأرض ، تحف به الكثبان الرملية ويقع في منتصف المسافة بين بورسعيد والسويس .

وتلاقت مياه البحرين الأبيض والأحمر (18 اغسطس 1869) ، فتألف منها ذلك الشريان الحيوي للملاحة العالمية ، وبذا انتهت أعمال هذا المشروع الضخم الذي استغرق تنفيذه عشر سنوات ، بعد استخراج 74 مليون متر مكعب من الأتربة ، وقد بلغت تكاليفه 433 مليون فرانك (17320000 جنيه) ، أي ضعف المبلغ الذي كان مقدرا لإنجازه.

افتتاح القناة في حفل أسطوري (17 نوفمبر 1869) ([5]) :

تلاقت مياه البحرين الأحمر والمتوسط في 18 اغسطس 1869 لتظهر إلى النور قناة السويس " شريان الخير لمصر والعالم " التي وصفها عالم الجغرافيا الراحل الدكتور جمال حمدان بأنها " نبض مصر".

وافتتحت القناة في حفل أسطوري (17 نوفمبر 1869) بحضور ستة آلاف مدعو فى مقدمتهم الإمبراطورة اوجينى زوجة إمبراطور فرنسا نابليون الثالث ، وإمبراطور النمسا ، وملك المجر ، وولى عهد بروسيا ، وشقيق ملك هولندا ، وسفير بريطانيا العظمى فى الآستانة ، والأمير عبد القادر الجزائري، والأمير توفيق ولى عهد مصر ، والكاتب النرويجى الأشهر هنريك إبسن ، والأمير طوسون نجل الخديو الراحل سعيد باشا ، ونوبار باشا. وغيرهم.

وعبرت القناة في ذلك اليوم (17 نوفمبر 1869) السفينة "ايغيل" وعلى متنها كبار المدعوين تتبعها 77 سفينة منها 50 سفينة حربية... وأقيمت بهذه المناسبة احتفالات ومهرجانات تفوق الوصف ، أنفق فيها الخديو اسماعيل نحو مليون ونصف مليون جنيه.


3-ما بعد الافتتاح حتى اتفاقية القسطنطينية :

فى 15 فبراير 1875 اشترى دزرائيلى رئيس الوزراء البريطاني  من الخديوى اسماعيل 176602 سهماً مقابل مبلغ 3.976.580 جنيه انجليزى وهذه الأسهم المصرية المباعة كانت تمثل 44% من مجموع الأسهم وكان تعطي مصر حق الحصول على 31 % من مجموع ربح الشركة .

وتنازلت الحكومة فى 17 أبريل 1880 للبنك العقارى الفرنسى عن حقها فى الحصول على 15% من ربح الشركة مقابل 22 مليون فرنك . وبذلك أصبحت الشركة تحت السيطرة المالية لفرنسا وانجلترا للأولى 56 % من الأسهم وللثانية 44% .

وفيما بين مايو وسبتمبر 1882 تم احتلال الانجليز لمصر فى أعقاب الثورة العرابية واستولى الجيش البريطانى على مرافق الشركة ، وأوقف المرور بالقناة مدة مؤقتة.

وصدر تصريح من لورد جرانفيلد فى 3 يناير 1883 إلى الدول الكبرى أعلن فيه أن الحكومة الانجليزية ترغب فى سحب جيشها من مصر فى أقرب فرصة تسمح فيها حالة البلاد بذلك. ويقترح تنظيم وضع قناة السويس بموجب اتفاقية تبرم بين الدول الكبرى.

ومن ثم اجتمعت فى 30 مارس 1885 فى باريس لجنة دولية لوضع وثيقة بضمان حرية الملاحة فى القناة فى كافة الأوقات ولكافة الدول ، ولكن لم يتم الاتفاق على وضع هذه الوثيقة.

اتفاقية القسطنطينية ( 29 اكتوبر 1888) :

أبرم فى القسطنطينية اتفاق بين كل من فرنسا والنمسا والمجر واسبانيا وانجلترا وايطاليا وهولندا وروسيا وتركيا بمقتضاه تم وضع نظام نهائى لضمان حرية الملاحة فى قناة السويس ([6]).

وارتباطا بمسألة احترام مصر لاتفاقية القسطنطينية بعثت فى 17 يولية 1957 برسالة إلى محكمة العدل الدولية .. يبلغها أن مصر قد قبلت الولاية الجبرية للمحكمة طبقاً لأحكام المادة 36 من القانون الأساسى لهذه المحكمة بالنسبة لكافة المنازعات التى تتعلق بالمرور فى قناة السويس.

4-تأميم القناة ..عودة الحق إلى أصحابه :

أعلن الرئيس جمال عبدالناصر فى خطابه التاريخى فى مدينة الإسكندرية  فى 26 يوليو 1956  قرار تأميم قناة السويس . ونصت المادة الأولى من القرار على " تؤمم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية (شركة مساهمة مصرية) وتنقل إلى الدولة جميع مالها من أموال وحقوق وما عليها من التزامات وتحل الهيئات واللجان القائمة حالياً على إدارتها.  ويعوض المساهمون وحملة حصص التأسيس عما يملكون من أسهم وحصص بقيمتها مقدرة بحسب سعر الإقفال السابق على تاريخ العمل بهذا القانون في بورصة الأوراق المالية فى باريس  ، ويتم دفع هذا التعويض بعد إتمام استلام الدولة لجميع أموال وممتلكات الشركة المؤممة.

وبالفعل أوفت الدولة المصرية بكافة التزاماتها ، فمع حلول الأول من يناير 1963 كانت قد سددت التعويضات التي أعلنت عن عزمها على دفعها لمساهميها تعويضا لهم عما يملكونه من أسهم وحصص تأسيس بقيمتها مقدرة وفقا لسعر الإقفال ، في اليوم السابق للتأميم في بورصة الأوراق المالية بباريس. وبلغت جملة التعويضات 28300000 جنيه قيمة 800000 سهم سددت جميعها بالعملة الصعبة ، قبل تاريخ استحقاقها بسنة كاملة ([7]).

وإذا كان قرار التأميم قد جاء ردا مباشرا على مواقف الدول الكبرى والبنك الدولى من مسألة تمويل السد العالى ([8]) ، إلا أن القرار فى حقيقة الأمر كان كاشفاً وليس منشئا للحقوق المصرية وهو يرتبط ارتباطا وثيقا بالسيادة المصرية على كامل التراب الوطنى بعد ثورة 23 يوليو المجيدة.

ولقد قامت مصر بتفنيد كافة الأسانيد التى تدحض وتشكك فى قرار التأميم ، وكان ذلك فى الخطاب الشهير الذي ألقاه وزير خارجية مصر الدكتور محمود فوزى أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة  فى 8 أكتوبر 1956 وكان خطابا مطولا من بين ما جاء فيه : إن لكل دولة مستقلة الحق في تأميم أية هيئة تخضع لسيادتها. وقد أكدت الجمعية العمومية للأمم المتحدة بقرارها رقم 12626 بتاريخ 21 ديسمبر 1952 أن لكل دولة الحق في استغلال موارد ثروتها لرفاهية شعبها ، طبقا لسيادتها ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة . وما تصرف مصر في تأميم شركة القناة إلا تنفيذ لهذا القرار.

وأضاف: إن شركة القناة شركة مصرية منحت امتياز تكوينها من الحكومة المصرية، وذلك لمدى 99 عاما. والمادة 16 من الاتفاق الذي عقد بين الحكومة المصرية وبين شركة القناة في 22 فبراير سنة 1866 تنص على " أن الشركة العالمية لقناة السويس البحرية هى شركة مساهمة مصرية تخضع لقوانين البلاد وعرفها. وقد اعترفت الحكومة البريطانية نفسها بهذه الحقيقة ودافعت عنها أمام المحاكم المختلطة بتاريخ 12 أبريل 1939 ، في قضية الوفاء بالذهب. كما أعلن تمسك مصر بحق سيادتها على أرضها ، واحترامها لاتفاقية 1888 مع استعدادها للمفاوضات في سبيل الوصول إلى حل لمشكلة القناة بالوسائل السلمية ([9]).

وبعد قرار التأميم تعرضت مصر لهجمة استعمارية شرسة بدأت بمحاولة خنق الاقتصاد المصرى عندما انسحب المرشدون والفنيون الأجانب الذين يعملون فى القناة لتعطيل الملاحة وعرقلة دولاب العمل ومن ثم إحراج الدولة المصرية بعدم قدرة أبنائها على إدارة القناة ([10]) .

بيد أن روح التحدى التى تحلى بها المصريون دوما فى أحلك الأوقات ساعدت على تجاوز الأزمة حيث نجح المرشدون المصريون بمعاونة بعض المرشدين من الدول الصديقة فى تسيير الملاحة بانتظام بعد يومين فقط من انسحاب المرشدين الأجانب حيث عبرت القناة فى 16 سبتمبر 36 سفينة وفى 17 سبتمبر 35 سفينة وفى يوم 18 سبتمبر 32 سفينة وفى 19 سبتمبر 34 سفينة ([11]) .

ووقتذاك ، وعلى وجه التحديد فى يوم الثلاثاء 18 سبتمبر 1956 استقبلت الإسماعيلية خمسين من المراسلين الأجانب كانت مصلحة الاستعلامات قد أعدت لهم رحلة إلى منطقة القناة ليقفوا بأنفسهم على دقة نظام الملاحة فى القناة . وفى اليوم التالى ( 19 سبتمبر 1956 ) كان المانشيت الرئيسى لصحيفة الأهرام معبرا عن واقع الحال حيث جاء كالتالى : إعجاب الصحفيين الأجانب بنظام الملاحة فى القناة ...بعد أن شاهدوا قوافل السفن تمر فى سلام  ([12]) . وكتب عدد غير قليل من الصحف والمجلات الأجنبية عن نجاح الإدارة المصرية فى تنظيم حركة الملاحة فى القناة ومن بينها  مجلة تايم الأمريكية حيث نشرت فى عددها الصادر فى الأول من أكتوبر 1956  مقالا بعنوان " تحت ظل الإدارة الجديدة " من أبرز ما جاء فيه " ...بعد ثمانية أسابيع من تأميم القناة وبعد أسبوع واحد من انسحاب ثلثى مرشديها يبدو أن ناصر بر بما كان يفخر به ، فقد مرت منذ التأميم 2432 سفينة بسلام وأمان منها 301 عقب الانسحاب الجماعى للمرشدين الأجانب ([13]) .

وتوالت الأحداث بعد ذلك والتى انتهت بشن العدوان الثلاثى على مصر والذى استمر من  31 اكتوبر إلى 22 ديسمبر 1956.

وإذا كان العدوان الثلاثى قد تسبب فى غلق القناة إلا أن ضفاف القناة ومصر كلها خاضت فى ذلك الوقت معركة مجيدة تكللت ليس فقط بانتصار 23 ديسمبر 1956 لكن معركة السويس المجيدة – كما يسميها المؤرخون - دفنت الاستعمار وعصر الاستعمار ودشنت بلا جدال عصر التحرير فى العالم وافتتحت موجة الاستقلال فى العالم الثالث بأسره ([14]).

وبنفس روح التحدى استؤنفت الملاحة في القناة ( 29 مارس 1957) بعد انتشال السفن الغارقة فيها وتطهيرها.

5-مشروعات القناة فى فترة ما بعد العدوان الثلاثى :

بعد عودة الملاحة في القناة ( 29 مارس 1957) بدأت الهيئة اعتباراً من أول يناير 1958 فى تنفيذ المرحلة الأولى من " مشروع ناصر" بهدف زيادة القطاع المائى لها من 1250 متراً مربعاً إلى 1800 متر مربع ، وزيادة الغاطس المسموح به للسفن العابرة من 35 قدماً إلى 37 قدماً. وشهد عام 1958 وصول أسطول الكراكات الذى ضم الكراكة الماصة "15 سبتمبر" وشقيقتها "26 يوليو" .

(أ)تنفيذ المرحلة الأولى من " مشروع ناصر "

وتسارعت عملية التطوير فى عام 1961 الذى شهد انتهاء المرحلة الأولى من مشروع ناصر فى 30 ابريل 1961  والثانية فى أول سبتمبر 1961 . وفى ديسمبر من نفس العام تم وضع حجر الأساس لترسانة هيئة قناة السويس البحرية.

(ب) عبور الناقلات العملاقة :

شهد عام 1962 ( 13 مارس ) عبور ناقلة  البترول "مانهاتان".. أضخم ناقلة بترول في العالم والتي تعد أضخم سفينة عبرت القناة منذ إنشائها ، وهى أمريكية الجنسية حمولتها القصوى 106500 طن وطولها 286,7 مترا وعرضها 40,2 مترا وغاطسها الأقصى 15,05 من الأمتار ، وتضارع في ارتفاعها عمارة ذات عشرة طوابق.

ومن السفن الضخمة التى عبرت القناة منذ التأميم ناقلات البترول التالية :

     ·  الناقلة الانجليزية " بريتش أدميرال  " وحمولتها  القصوى 111274 طناً وعبرتها فى 8 مايو 1966.

     ·  الناقلة الانجليزية " بريتش أرجوزى " وحمولتها القصوى 112786 طناً وعبرتها فى 17 يوليه  1966.

     ·  الناقلة السويدية " سى سبريت " وحمولتها القصوى 119400 طن وعبرتها فى 27 يوليه 1966.

     ·  الناقلة السويدية " سى سبراى " وحمولتها القصوى 116250 طناً وعبرتها فى 26 نوفمبر 1966.

 (ج) عبور السفن العملاقة :

فى 8 أكتوبر 1962 احتفلت هيئة القناة بعبور السفينة "المائة ألف" في قناة السويس منذ أن أممها الرئيس جمال عبدالناصر في 26 يوليه 1956 والسفينة "المائة ألف" المحتفى بها هي ناقلة البترول النرويجية "برج هس" التي تم بناؤها في ميناء ستافنجر بالنرويج سنة 1955 ، ويبلغ طولها 194 مترا وعرضها 26 مترا وعمقها 14 مترا وحمولتها الكلية 20990 طنا.

وفى 14 أبريل 1964 انضمت إلى اسطول كراكات الهيئة الكراكة الجديدة "خوفو" وبنيت هذه الكراكة لحساب هيئة القناة ، في اسكتلندا وهي شبيهة بشقيقاتها "26 يوليه" و"15 سبتمبر" و"تحتمس" وهي من الطراز الماص الطارد ذات حفار ، غير أنها أكبر منهم حجما وأعظمها قدرة ، إذ تبلغ قوة آلاتها 8500 حصان ويمكنها تفتيت الصخور حتى عمق 21 مترا وامتصاصها وطردها إلى مسافة ثلاثة كيلو مترات ونصف ويبلغ ثمنها مليون ونصف مليون جنيه.

عبور السفينة " برجهافن ":

عبرت القناة فى 27 اكتوبر 1966 ناقلة البترول النرويجية " برجهافن " وتبلغ حمولتها القصوى 153511 طناً وطولها 278.9 متراً وعرضها 44.2 متراً وهى أضخم سفينة عبرت القناة منذ إنشائها وقد سمحت الهيئة بعبورها بعد إجراء عدة تجارب ، فى حوض القناة بمعمل الأبحاث بالاسماعيلية على نموذج مصغر لها كما قامت الهيئة بإجراء تجارب مماثلة على الناقلة أثناء عبورها وقد جاءت نتائج الدراسات والتجارب المعملية مطابقة للنتائج على الطبيعة.

6-إعادة افتتاح قناة السويس (5 يونيو 1975) :

توقفت الملاحة فى القناة بسبب العدوان الإسرائيلى فى  5 يونيه 1967 واستمر الوضع كذلك حتى أعلن الرئيس أنور السادات في خطابه التاريخي في مجلس الشعب ( 29 مارس  1975) إعادة فتح  قناة السويس وقال  " .. إنني لا أريد لشعوب  العالم التي تهتم  بالقناة معبراً لتجارتها أن تتصور بأن شعب مصر يريد عقابها لذنب لم تقترفه ، إنهم جميعاً أيدونا ونحن  نريد قناتنا كما يريدونها طريقاً لازدهارنا ، سوف نفتح قناة السويس ونحن قادرون على حمايتها نفس قدرتنا علي حماية مدن القناة التي قمنا ونقوم بتعميرها ، فلقد مضي ذلك العهد الذي كانت فيه المسافات حائلاً دون العدوان.

وفى 5 يونيو 1975 أعيد افتتاح القناة للملاحة العالمية ، وقال السادات في خطاب تاريخي أعلن لابن هذه الأرض الطيبة الذي شق القناة بعرقه ودموعه ، همزة للوصل بين القارات والحضارات ، وعبرها بأرواح شهدائه الأبرار لينشر السلام والأمان على ضفافها ، يعيد فتحها اليوم للملاحة من جديد ، رافداً للسلام وشريانا للازدهار والتعاون بين البشر.

ثم صعد الرئيس أنور السادات علي ظهر المدمرة " 6 أكتوبر " ليبدأ بها أول رحلة ، عبر قناة السويس ، في قافلة تبدأ بكاسحتي ألغام ، ثم المدمرة " 6 أكتوبر " فاليخت الحرية " ، وسفينة القيادة بالأسطول السادس " ليتل روك " والسفينتن المصريتن سوريا و عايدة ، ثم لنشين عسكريين والقاطرة " مارد " وفي نهاية القافلة ، ثلاث سفن حربية والسفينة القطرية " غزل " وعند وصول القافلة إلى الاسماعيلية ، توجه الرئيس إلى مبني الإرشاد لإزاحة الستار عن اللوحة التذكارية بمدخل المبني ([15]).

وفى 31 أكتوبر 1976 عبرت قناة السويس ناقلة البترول العملاقة الليبيرية " اسوسكانديا " ، وتبلغ حمولتها القصوي 254 ألف طن ، وطولها 348.5 متراً ، وعرضها 51.90 متراً ، وغاطسها 65.60 قدماً ، وعبرت القناة فارغة بغاطس 28 قدماً ، وتعد أكبر سفينة اجتازت مياه القناة ، منذ حفرها في 1869.

وشهد عام 1979 بداية حفر تفريعة التمساح ( 22 فبراير ) والتى تبدأ من الكيلو متر 76,6 إلى الكيلو متر 81,7 بطول 5,1 كيلو متر... وتم افتتاحها عام 1980 لتحقق – وقتذاك - مع التفريعات الأخرى ازدواج المجرى الملاحي في مسافة 68 كيلو متراً من طول المجرى البالغ 179 كيلو مترا من بورسعيد حتى بورتوفيق في السويس.

وفى 19 مارس 1980 تم الإحتفال باتصال تفريعة بورسعيد  بمياه البحر المتوسط  . وهى التفريعة التى تبدأ من الكيلو متر 17 لتلتقى بالمجرى القديم للقناة ببوغاز بورسعيد عند الكيلو متر 95 ، ثم تمتد حتى الكيلو متر 195 ليصل طولها النهائي إلى 36,5 كيلو متراً ، وتحقق هذه التفريعة دخول وخروج السفن والناقلات الضخمة من وإلى القناة دون إعاقة الحركة بميناء بورسعيد...

7-توسيع المجرى الملاحى وتعميقه:

عند افتتاح القناة للملاحة في السابع عشر من نوفمبر عام 1869 ، كان طولها 164 كيلو مترا ، وعرضها عند مستوى سطح المياه 52 مترا وعمقها 7 أمتار ونصف متر... وكان غاطس السفن المسموح به للعبور لا يزيد عن 22,5 قدما وكانت الملاحة لا تتم في القناة إلا نهارا  فقط...

واستمرت الملاحة نهارا في قناة السويس طوال 18 عاما متصلة... حتى أدخلت شركة القناة نظام الملاحة الليلية في اليوم الأول من مارس 1887.

وطوال الفترة ما بين فتح القناة الأولى وقيام مصر بتأميمها في عام 1956 قامت شركة القناة المؤممة بتنفيذ العديد من برامج تحسين وتطوير قناة السويس... وكان من نتائج هذه المشروعات... زيادة عمق القناة إلى 13 مترا ونصف المتر... وزيادة عرضها عند القاع من 22 مترا إلى 42 مترا... وزيادة القطاع المائي من 304 أمتار مربعة إلى 1250 مترا مربعا... والغاطس المسموح به من قدمين وربع إلى 35 قدما... وبلغت جملة تكاليف هذه التحسينات 20 مليون و500 ألف جنيه مصري.

ومع استمرار تطور صناعة السفن وبناء سفن أكبر فى الحجم والحمولة ، ظهر الاحتياج إلى تطوير قناة السويس ، وقد تم ذلك بمعرفة الشركة العالمية لقناة السويس البحرية حتى وصل غاطس السفن إلى 35 قدمًا، ومساحة القطاع المائى للقناة إلى 1200 متر مربع قبل تأميم القناة فى 26 يوليو 1956.

وتواصل تطوير القناة، حيث زاد الغاطس إلى 38 قدمًا ومساحة القطاع المائى للقناة إلى 1800 متر مربع، وانتهت هذه المرحلة فى مايو 1962. ثم أعلنت إدارة القناة فى يونيو 1966 عن خطة طموحة لتطوير القناة على مرحلتين لتصل بالغاطس إلى 48 ثم 58 قدمًا على التوالي.

ثم توقف التطوير بالقناة نتيجة لحرب يونيو 1967 وأعيد فتح القناة للملاحة الدولية فى يونيو 1975 بعد تطهيرها من مخلفات الحروب ورفع السفن الغارقة بين حربى 1967 و 1973 ولتظل القناة بنفس العمق والقطاع المائى لها قبل الإغلاق.

واستمرت الإدارة المصرية بعد ذلك فى مشروعات التطوير حتى بلغت حمولة السفينة المسموح بعبورها 210 ألف طن بكامل حمولتها، ووصل الغاطس إلى 62 قدمًا ومساحة القطاع المائى إلى 4800 متر مربع وطول القناة إلى 191.80 كم فى عام 2001. وتم أيضا فى هذا المشروع إعادة تصميم المسارات المنحنية فى القناة ليصل نصف قطر كل منها إلى 5000 متر على الأقل. كما تم حفر تفريعة جديدة تبدأ من الكم 17 جنوب بورسعيد شمالا حتى البحر الأبيض المتوسط شرق مدينة بور فؤاد لتسمح للسفن المحملة والمتجهة شمالا للوصول إلى البحر بدون الدخول إلى ميناء بورسعيد.

ووصل غاطس السفن المسموح لها عبور القناة إلى 66 قدما فى عام 2010، ليستوعب جميع سفن الحاويات حتى حمولة 17000 حاوية تقريبا فضلا عن عبور جميع سفن الصب من جميع أنحاء العالم.



المصادر:
 ــ موقع الهيئة العامة للإستعلامات.

(1) جورج حليم كيرلس ، قناة السويس والقنوات البحرية العالمية ( القاهرة : دار الفكر العربى ، 1964 ) ، صـ 64 وما بعدها.

(2) المرجع السابق ، صـ 68.

(3) راجع نص فرمان الإمتياز الأول صـ من هذا الكتاب.

(4) جورج كيرلس ، مرجع سابق ، صـ 69.

(5)محمد الشافعى ، محمد يوسف ، قناة السويس : ملحمة شعب ..تاريخ أمة ( القاهرة : الهيئة العامة لقصور الثقافة ، 2006 ) صـ 85 -93.


(6) النص الكامل للإتفاقية ضمن ملاحق هذا الكتاب.

(7) جورج حليم كيرلس ، مرجع سبق ذكره ، صـ 105.

(8) أكدت الولايات المتحدة فى بيان أصدرته بتاريخ 19 يوليو 1956 أن إسهامها فى مشروع بناء السد العالى أمر غير عملى بحجج وأعذار واهية ليس هذا فحسب ، بل شككت فى قدرات مصر على إنجاز هذا المشروع وأكد وزير الخارجية الأمريكى فى ذلك الوقت جون فوستر دالاس يوم 20 يوليو 1956 ردا على سفير مصر حينذاك عندما قال : لم تعد حكومة الولايات المتحدة راغبة فى الإسهام فى تمويل السد العالى بعد أن تبين لها أن اقتصاد مصر قد بلغ حدا من الضعف بحيث لا يستطيع تحمل مثل هذا المشروع  راجع فى تفصيل ذلك :

- فتحى رزق قناة السويس : الموقع والتاريخ ( القاهرة : دار النصر للطباعة الإسلامية ،  1983 ) ، صـ 138 وما بعدها.

(9) لمزيد من التفاصيل راجع :

- محمود يونس ، قناة السويس : ماضيها وحاضرها ومستقبلها ( القاهرة : دار ابوالمجد للطباعة بالهرم ، 2006 ) ، صـ 275 وما بعدها.

(10) فى 14 سبتمبر انسحب المرشدون الأجانب راجع فى ذلك :

-جورج حليم كيرلس ، مرجع سابق ، صـ 92 وما بعدها.

(11)  محمود يونس ، مرجع سابق ، صـ 254.

(12) نفس المرجع ، صـ 255.

(13) المرجع السابق ، صـ 259.

(14) د. جمال حمدان ، قناة السويس نبض مصر ( القاهرة : عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع ، 1975 ) صـ 26-27.

(15) ذاكرة مصر المعاصرة: